كتب محسن محمد
حكايات الذين لم يعودوا كما ذهبوا
الرحيل ليس دائمًا خطوة نحو الأمام، أحيانًا هو انسحابٌ صامت من مكان لم يعد يحتملنا، أو لم نعد نحتمله. يظن الناس أن المغترب حين يعود، يعود كما كان: نفس الملامح، نفس اللغة، نفس التفاصيل. لكن الحقيقة أن هناك شيئًا لا يعود... شيء يتغير في الداخل، ولا يُقال.
الغربة تغيّرنا، ليس لأننا نعيش في مكان مختلف، بل لأنها تعيد ترتيبنا من الداخل. تُجبرنا على أن نكتفي بأنفسنا، أن نحمل الوطن في الذاكرة لا في الواقع، أن نخلق لأنفسنا مكانًا بديلًا نلجأ إليه حين يضيق كل شيء.
وحين نقرر العودة، لا نعود إلى ما تركناه، بل إلى نسخة منه تغيّرت كما تغيّرنا نحن.
نُصدم بأن البيوت لم تعد كما هي، وأن الوجوه القديمة أصبحت أكثر صمتًا، وأن الأحاديث لم تعد تُروى بنفس الحرارة.
هناك شيء في الغربة لا يُشفى منه...
شيء يجعلنا دائمًا في منتصف الطريق، لا نحن من أبناء المكان الجديد، ولا نحن على وفاق تام مع المكان القديم. نحن بين بين.
نعود، فنشعر أننا ضيوف في بيوتنا، وأن ضحكتنا القديمة صارت غريبة على وجوههم، وأن "كيف حالك؟" أصبحت مجاملة ثقيلة لا شوقًا صادقًا.
ولذلك، يختار البعض ألا يعود، لا لأنهم نسوا أو خانوا، بل لأنهم حين جرّبوا أنفسهم خارج الإطار القديم، لم يستطيعوا العودة إلى الصورة السابقة.
هم ليسوا خونة للوطن، ولا جاحدين للأهل، هم فقط تغيّروا...
ومن يُجبر على العودة دون أن يُفهم تغيّره، يشعر كأن روحه تُسجن في نسخة قديمة لا تشبهه.
أولئك العائدون الذين "لم يعودوا كما ذهبوا"، هم حكايات نصفها هنا ونصفها هناك.
غرباء في المكانين، ينتمون إلى شعور لا مكان، إلى لحظة هاربة لا تُستعاد.
إنهم لا يبحثون عن وطن يُعيدهم كما كانوا، بل عن مكان يمنحهم الحق أن يكونوا كما أصبحوا.
إرسال تعليق