كتب -محمد الفاتح
دخل صلاح سالم إلى جنوب السودان ، ذلك المكان الذي بثّت فيه السياسة البريطانية سمومها لإحداث القلاقل مع شماله بغية الانفصال ، بيد أن صلاح سالم كسبها برقصاته العارية مع قبائل جنوب السودان ، وبسبّه للبريطانيين الذين طالما عاملوا هذه القبائل بشيء من الاحتقار والصلف ، حتى إن الصحافة البريطانية تناولت ذلك الحدث وأبرزت تلك الرقصة التي لا تزال شاهدة على محاولات صلاح سالم لرأب الصدع ولو كان بالرقص عاريا! على أية حال استطاع صلاح سالم بالفعل رأب ذلك الصدع ، وطبقا لمعاهدة التفاهم البريطانية المصرية بشأن السودان ، فقد أُجريت الانتخابات في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1953م وتحقّق ما كان يأمله الوطنيون في مصر والسودان على السواء ، فقد سقط " حزب الأمة " أكبر الأحزاب التي عارضت قضية الوحدة بين البلدين ، وفاز " الحزب الوطني الاتحادي " الذي خاض الانتخابات حول مبدأ الاتحاد مع مصر بنتيجة كبيرة ، وكانت هذه النتيجة الكبيرة دليلا دامغا على رسوخ قضية "وحدة وادي النيل" لدى السودانيين قبل المصريين.
إسماعيل الأزهري عاشق مصر والوحدة إرتفي ليكون رئيس الوزراء الأول للسودان بعد الاستقلال في يناير/كانون الثاني 1954م، وزار بريطانيا في السنة نفسها التي استقبلته كما الملوك بهدف التأثير عليه للابتعاد عن الوحدة مع مصر، ليعود الأزهري من زيارته تلك متجها إلى القاهرة التي تكلم فيها مع عبد الناصر وصلاح سالم وغيرهم عن أسس الوحدة المنشودة ، وآلياتها في هذه اللحظة، تتفق كثير من المصادر على أن صلاح سالم كان يستهين بالأزهري "ولم يحاول أن يتفاهم معه بصراحة، أو أن يتفق معه على الحد الأدنى من أسس الاتحاد ، وكان الأزهري إزاء هذا الخداع والاستهانة يتجه ناحية المطالبين بالاستقلال وعدم الوحدة مع مصر رويدا رويدا.
طوال عام 1954م كانت الضربات تتوالى من القاهرة على الخرطوم من "الضباط الأحرار"، رأى السودانيون ما جرى من المعاملة المهينة للنحّاس باشا زعيم الوفد الذي اعتبره الكثيرون منهم رمزا وطنيا وقف على الدوام ضد التآمر البريطاني الذي عمل على فصل السودان عن مصر، كما رأى الإخوان المسلمون في السودان ما جرى لإخوانهم في مصر من التعليق على المشانق ، والتعذيب المروّع في السجون المصرية ، بل رأى الشيوعيون السودانيون رفاقهم الروّاد يلعقون بلاط السجون ، بينما على الجانب الآخر يتودد لهم النظام المصري، ولم يكن من العسير أن يستنتجوا ماذا سيحلّ بهم إذا ما امتدّ نظام الحكم الناصري إلى هناك .
على أن الطامة الكبرى التي نزلت بالسودانيين كانت الغدر بمحمد نجيب الرئيس الأول لجمهورية مصر، والمدافع الأكبر عن الوحدة مع السودان، والحق أن نجيب روى بمرارة وحسرة ما تعرّض له من غدر في مذكراته الشهيرة "كنت رئيسا لمصر"، والسياسة الفاشلة التي اتخذها عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة في تعاملهم مع السودان والسودانيين ، وكان أولها إزاحته عن حكم مصر، وقد اعتبر السودانيون على الدوام محمد نجيب الرجل الذي كان نصفه مصريا ونصفه سودانيا هو الضامن الحقيقي لمسألة الوحدة .
كان نجيب بالفعل حجر الزاوية في توحيد الأحزاب السودانية كبداية في مسيرة الوحدة مع مصر، وقد استقبلهم في القاهرة، ونجح مسعاه في حين أُنشئ الحزب الوطني الاتحادي برئاسة إسماعيل الأزهري على يديه، وكان نجيب هو الذي سعى مع بريطانيا لعقد اتفاقية فبراير/شباط 1953م القاضية بانسحاب مصر وبريطانيا من السودان في مقابل الاستفتاء السوداني على تقرير مصيره، إما الاستقلال وإما الوحدة، وكان نجيب قد تأكّد من الوحدة فعلا .
كان نجيب أيضا هو الرجل الوحيد الذي زاره زعيم حزب الأمة السوداني عبد الرحمن المهدي والد الصادق المهدي حين زار القاهرة سنة 1937م وهو الرجل الذي كره على الدوام الوحدة مع مصر، وفوق ذلك كانت سنوات خدمة نجيب في السودان كضابط مصري ، ووالدته التي ينحدر أصلها إلى السودان قد ساعده على معرفة طبيعة هذا البلد، بل والاندماج فيه بروحه وكيانه وعشقه له، للدرجة التي كان يستشيره فيها النقراشي باشا رئيس وزراء مصر في الأربعينيات فيما يتعلق بالسودان وشؤونه وكيفية تعاطي السياسة المصرية مع هذا القطر.
إن نجيب الذي كتب سنة 1943م كتابا عن السودان سماه "رسالة عن السودان" كان تجسيدا حقيقيا لرؤية هذا الرجل للسودان وثقافته وشعبه وتراثه وأرضه واعتباره جزءا لا يتجزء من مصر، كان محمد نجيب صادقا في مسعاه، وقد أدرك السودانيون حقيقة هذه المشاعر جيدا فلبوا نداءه حين دعاهم للقاهرة للوحدة، ولبوا نداءه أيضا حين زار السودان في أوائل سنة 1954م على الرغم من المؤامرة البريطانية التي راح ضحيتها العشرات في استقباله.
تعليقات
إرسال تعليق