كتب - محمد الفاتح
الجزء الاول
كتب محمد نجيب ("كنتُ رئيسا لمصر") في مذكراته :
إن مشكلة جمال عبد الناصر وصلاح سالم وباقي مجلس الثورة مع السودان؛ هي أنهم لم يعرفوا ولم يفهموا أهله، ولم يتصوّروا أهميته بالنسبة لمصر، فتصرّفوا وكأنهم سيّاح وليسوا أبناء وادٍ واحد" .
لا تبدو العلاقة بين مصر والسودان علاقة عابرة ، سواء على مستوى التاريخ المشترك، أو التداخل الجغرافي، بل يمتزج في تفاصيلها التاريخية علاقة ممتدة من الثبات والرسوخ ووحدة المصير، وعلاقة البحث عن الشريك و الأخ والاتحاد معه، والأمان بوجوده، وطالما انتبه قادة أفذاذ عبر التاريخ إلى أهمية هذه العلاقة، فإذا كانت الحضارة المصرية القديمة لا تزال تشهد بهذه العظمة فإن السودان لم يغب عن هذه الحضارة ، ولا تزال آثار مناطق شمال السودان و تشابها الكبير مع حضارة مصر شاهدة على هذا التمازج والتأثر والتلاقي منذ آلاف السنين.
أدرك الظاهر بيبرس، في القرن الثالث عشر الميلادي الأهمية الإستراتيجية والجيو سياسية للسودان واستطاع بعد سلسلة طويلة من الحروب أن يضم مملكة النوبة إلى مصر و التوغل في عمق السودان، وأدرك مثله محمد علي باشا في القرن التاسع عشر أن تأمين منابع النيل، والسيطرة على الذهب، لن يكون إلا بضم السودان ، لكن ما بدأ بغرض استغلالي نفعي بحت في أول الأمر سرعان ما جعلته الأيام وحدة أبرزت ملامح الشخصية القومية المصرية والسودانية المتشابهة ، فظل مليك مصر يُطلق عليه "ملك مصر والسودان" حتى في سنوات الاحتلال البريطاني .
حين دخل البريطانيون محتلين مصر سنة 1882م وبعدما قاموا بإنفاذ قرار إلغاء الجيش المصري بمرسوم الخديو الضعيف و المتواطئ توفيق ، عُين السير إيفلين دود قائدا عاما للجيش المصري في 16 يناير/كانون الثاني سنة 1883، وكانت السياسة البريطانية منذ اللحظة الأولى تدرك خطورة وحدة مصر والسودان على أهدافها الرامية إلى استغلال البلدين ، ونشر التنصير في أفريقيا انطلاقا من السودان ، لذا، فقد أمرت السلطات البريطانية الخديو توفيق بسحب آخر قائد مصري من السودان عبد القادر باشا حلمي واستبداله بالبريطاني هيكس الذي عُين رئيسا لأركان الجيش السوداني .
لاقت مساعي الإنجليز تلك مقاومة شرسة من السودانيين بدأت في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1883م، ثم حين عُين غوردن باشا حكمدارا عاما للسودان وحوصر في الخرطوم التي سقطت في يد المهدي وثورته في 26 يناير/كانون الثاني 1885، وظل الصدام البريطاني السوداني قائما حتى نجح اللورد كيتشنر قائد الجيش المصري في دخول أم درمان في 2 سبتمبر/أيلول 1898م ، وبعدها بأشهر قليلة في يناير/كانون الثاني 1899م وُقعت الاتفاقية التي عُرفت بالاتفاقية المشؤومة ، والتي كان ممثلها عن الجانب المصري بطرس غالي باشا وزير الخارجية وبين اللورد كرومر بترسيم الحدود بين القُطرين، وبتوسيع نفوذ الإنجليز وتهميش الدور المصري في السودان، وبسبب خيانة بطرس غالي بحسب وجهة نظر المصريين، فقد اغتيل الرجل على يد شاب مصري سنة 1910م.
أراد الاستعمار البريطاني بترسيم الحدود أن يُكسب السودان صفة الدولة بهدف إبعاد وقطع صلات السودان بمصر ، وسعيا لتمزيق العلاقات الشعبية والتاريخية بين القطرين تزامنا مع التمزيق الحدودي . وبسبب الزحف الفرنسي على أفريقيا ، أعادت القوات البريطانية استخدام الجيش المصري للدخول إلى السودان مرة أخرى، مستندة إلى حجة عودة القوات المصرية للسودان ، ومستخدمة صيغة "الاحتلال المشترك".
في سنة 1919 قامت الثورة ضد الاحتلال البريطاني في مصر ، وضد نفي سعد زغلول ورفاقه ، وكان صدى هذه الثورة قد وصل إلى السودان فاشتعلت فيها روح المواجهة ضد البريطانيين ، وظلت شرارة الثورة متقدة في وادي النيل مصر و السوادان ، حتى أعيد سعد زغلول من منفاه، وتم عقد اتفاقية 1923م وأعلن استقلال مصر، وتولى سعد زغلول رئاسة الوزراء، لكن الناس فوجئوا سنة 1924م باغتيال شاب مصري للسير "لي ستاك" المندوب السامي في مصر، الحدث الذي اعتبرته بريطانيا سببا ومسوغا وفرصة لمطالبة حكومة سعد زغلول بانسحاب الجيش المصري الرابض في السودان ، لكن سعد زغلول رفض هذا الشرط ، وقدم استقالته ، ليترتب على ذلك حصار القوات البريطانية للقوات المصرية في الخرطوم، وحين رأت القوات السودانية هجوم البريطانيين ضد المصريين قرروا الدخول في مقاومة مسلحة ضد الإنجليز، لكن الضعف التسليحي للسودانيين وأعدادهم القليلة تسببت في نجاح الإنجليز من هزيمة الجيشين المصري والسوداني ، واستطاعوا بسط السيطرة الكاملة على السودان .
على الرغم من ذلك، ظلّت الحكومات المصرية المتعاقبة طوال الحكم الملكي تعتبر السودان جزءا لا يتجزأ من مصر ، وأن المحاولات البريطانية التي كانت تهدف إلى إرغام هذه الحكومات للقبول بمبدأ استفتاء السودانيين لتقرير مصيرهم كانت مرفوضة من جانب النخبة السياسية المصرية ، يقول أحد أهم رجالات الوفد ووزير الداخلية في الأربعينيات فؤاد سراج الدين : "إن فكرة استفتاء السودانيين كانت مستبعدة تماما ، ومرفوضة لأنه لا يمكن إقرار استفتاء أسيوط مثلا" . هكذا كانت السودان في نظر المصريين قطرا أصيلا ، وجزءا لا يتجزأ من التراب الوطني ، لكن انقلاب يوليو/تموز 1952م حرّك المياه الراكدة، وغيّر موازين القوى .
(يتبع ……)
تعليقات
إرسال تعليق